أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

طابع مختلف:

مشكلات الصحافة الاستقصائية في المنطقة

11 مارس، 2017


 تُعبِّر "الصحافة الاستقصائية" عن نوع مختلف من التحقيقات الصحفية، حيث تتسم بالعمق، وتُعنَى بتتبع الأثر، والبحث فيما وراء المعلومة وليس نقلها فقط، ومن ثم استخلاص نتائج مدققة، يفترض أن تتسم بالحياد وعدم تأثرها بتوجهات وقناعات الصحفي الاستقصائي، ومن ثمَّ تأتي أهمية وحساسية هذا النوع من التحقيقات الاستقصائية التي تولت مهمة كشف الفساد والتجاوزات في القطاعين الحكومي والخاص منذ أن عرفتها الأوساط الصحفية العالمية.

وعلى الرغم من قِدَم مفهوم الصحافة الاستقصائية عالميًّا، فإن ظهوره في منطقة الشرق الأوسط يُعد حديثًا، نظرًا لغياب هذا المفهوم عن التقاليد الصحفية المتعارف عليها في المنطقة، فيما يرجع ظهور أول تحقيق صحفي استقصائي في المنطقة إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، غير أن خفوتًا قد اعترى هذا النمط من الصحافة نتيجة العديد من التحديات التي حالت دون استمراره بنفس القوة على الساحة الصحفية في دول المنطقة، إلى أن أتاحت مساحات الحرية الممنوحة لوسائل الإعلام بشكل عام الفرصة لعودة الصحافة الاستقصائية مرة أخرى.

تأثيرات مباشرة:

يُمكن القول إن التحولات السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية منذ عام 2011، قد أتاحت الفرصة لعودة نمط التحقيق الاستقصائي، وهو ما ينعكس بشكل كبير من خلال حرص العديد من المؤسسات على إطلاق برامج ووحدات للتدريب على التحقيقات الاستقصائية في دول عدة مثل تونس واليمن والعراق وسوريا والأراضي الفلسطينية.

ففي هذا السياق، أطلق صحفيون سوريون بالتعاون مع مجموعة من الأكاديميين وخبراء الإعلام "وحدة التحقيقات الاستقصائية السورية" (Siraj) في نوفمبر 2016. كما تأسست كل من "الجمعية التونسية للصحافة الاستقصائية" و"شبكة المحققين الاستقصائيين في فلسطين" في العام ذاته، وتم إطلاق "رابطة الإعلاميين الاستقصائيين اليمنيين" عام 2012، و"شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية" (NIRIJ) عام 2011.

وقبل ذلك، اتخذت كل من الأردن والمغرب خطوات مبكرة نوعًا ما في هذا الإطار، حيث تم تدشين شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (ARIJ) في الأردن عام 2005، والتي تعد أول شبكة في المنطقة العربية معنية بصحافة الاستقصاء، بينما أطلقت "الجمعية المغربية من أجل صحافة الاستقصاء" (AMJI) في المغرب عام 2009.

وقد واكب هذا الاهتمام الحديث بالصحافة الاستقصائية في دول المنطقة، تطويع لهذا النمط من الصحافة من قبل وسائل الإعلام العربية ليتناسب مع البيئة الإعلامية السائدة فيها، مع الاحتفاظ بملامح الوظيفة الأساسية للصحافة الاستقصائية المعنية بكشف الفساد، فظلت القضايا المطروحة على أجندة الصحافة الاستقصائية في المنطقة العربية منصبة على الملفات المتعلقة بتجاوزات القطاع الخاص، ورجال الأعمال النافذين، والقضايا البيئية، وحقوق العمال في مواجهة رأس المال، وغيرها من الملفات المشابهة. 

غير أن تحولا مهمًّا شهدته الصحافة الاستقصائية في دول المنطقة، وهو اتجاهها بقوة نحو الاهتمام بقضايا الإرهاب والحركات المتطرفة، حتى إن هذا النمط من التحقيقات الاستقصائية قد شهد نشاطًا كبيرًا ذا صدى في مناطق الصراع بالمنطقة، على الرغم من خطورتها، وعدم القدرة على توفير الحماية اللازمة للصحفيين القائمين على هذه التحقيقات.

إذ تعود بداية هذا الاتجاه إلى حقبة الحرب على الإرهاب في أفغانستان ثم الحرب على العراق التي شهدت تحقيقات استقصائية عدة اتسمت بالأهمية، لعل من بينها تحقيق "تجاوزات سجن أبو غريب"، مرورًا بالعديد من التحقيقات التي تناولت ممارسات تنظيم "داعش" في مناطق سيطرته على بعض المدن العراقية، كان أبرزها "المسيحيون بعد الموصل: الشرق الأوسط لم يعد مكانًا صالحًا للعيش "الذي نشرته صحيفة "الحياة" في 22 أغسطس 2014، والذي تناول قضية النزوح المبكر لمسيحيي العراق من مدينة الموصل عقب دخول تنظيم "داعش"، وسيطرته عليها.

كما كان للصحافة الاستقصائية حضور قوي أيضًا في سوريا منذ قيام الثورة وحتى الآن، حيث نشط صحفيون استقصائيون أجانب وسوريون في الكشف عن تجاوزات النظام بحق المتظاهرين، ثم متابعة العمليات العسكرية بعد تعقد الوضع في سوريا، ودخول العديد من الأطراف إلى ساحة الصراع، كما استطاعت الصحافة الاستقصائية الكشف عن حصار بلدة مضايا.

وإلى جانب ذلك، تم توظيف "الصحافة الاستقصائية" بشكل كبير في وسائل الإعلام المرئية في المنطقة. فعلى عكس ما ساد عالميًّا من نشاط للتحقيقات الاستقصائية في وسائل الإعلام المقروءة، فإن نشاطًا لهذا النمط من التحقيقات شهدته ولا تزال وسائل الإعلام المرئية في الدول العربية منذ سنوات، ربما كان في طليعتها برنامج "سري للغاية" على قناة "الجزيرة"، وكذلك برنامج "صناعة الموت" على قناة العربية، وبرنامج "المحققون" على قناة "مدى 1 تي في" المغربية.

وفي إطار اهتمام وسائل الإعلام المرئية بالتحقيقات الاستقصائية، عملت أكثر من شبكة تلفزيونية على إنشاء وحدات استقصائية لتعزيز مصداقية ما تعرضه من تقارير حول أكثر القضايا أهمية، حيث أسست قناة "الجزيرة" "وحدة التحقيقات الاستقصائية" عام 2012، وكذلك قامت قناة "أون تي في" المصرية بإنشاء أول وحدة للصحافة الاستقصائية التلفزيونية بمصر خلال العام نفسه، وذلك بالتعاون مع شبكة الصحفيين الدوليين "IJNet".

تحديات متعددة:

تُواجه الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الاستقصائية التلفزيونية في دول المنطقة العديد من التحديات التي تحد من انتشار هذا النمط من التحقيقات، على الرغم من الأهمية المفترضة لها، وتتمثل أهم هذه التحديات في:

1- عدم توافر الحماية اللازمة للفريق المتقصي: وهى مشكلة هيكلية يعاني منها الصحفيون حول العالم، وتنصرف بالضرورة إلى الصحفيين الاستقصائيين، حيث لا توفر أغلب المؤسسات الإعلامية الحماية الواجبة للصحفيين في المناطق الخطرة، من خلال التنسيق مع الجهات المعنية في هذه المناطق، وهو أمر يزداد صعوبة في إطار التحقيقات الاستقصائية التي تتطلب في أحيان كثيرة التكتم والسرية، لا سيما إذا ما كانت تختص بقضية فساد سياسي أو اقتصادي، وهو ما يُعرِّض الصحفي في كثير من الأحيان للعقاب المباشر إذا ما انكشف أمره من قبل أصحاب المصالح المُستَقْصَى عنهم. 

2- قلة الإمكانيات المادية للعديد من وسائل الإعلام لا سيما الصحفية: فبخلاف غيرها من أنماط التغطية الصحفية، تحتاج التحقيقات الاستقصائية لموارد مالية لتغطية تكاليف سفر مفترضة لفريق العمل الاستقصائي، لا سيما وأن التحقيق الاستقصائي يستغرق بطبيعته وقتًا أطول للحصول على المعلومات، والخروج بتقرير نهائي لما تم رصده منها. وكذلك استعداد المؤسسات الإعلامية للدخول في صراعات وربما ملاحقات قضائية من قبل أصحاب المصالح، في الوقت الذي تعاني فيه العديد من المؤسسات الصحفية من أزمات مالية، تتسبب في عجزها عن الوفاء بمستحقات العاملين فيها.

3- غياب قوانين تكفل الحق في الوصول للمعلومات: حيث لا يزال العمل الإعلامي بشكل عام في العديد من دول المنطقة يعاني من غياب أطر قانونية تتيح وتسمح بالحصول على المعلومات ومن ثم تداولها، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة العمل الاستقصائي القائم على حقائق ومعلومات وليس اجتهادات شخصية، وبالتالي يقع الصحفي المستقصي في ورطة كيفية الحصول على المعلومات بطرقه الخاصة من خلال علاقاته الشخصية وغيرها من الطرق بهدف تقليص مساحة الخطأ الناتج عن نقص المعلومات، الأمر الذي يُعرِّض العمل الاستقصائي لمواجهة مشكلة عدم المهنية إذا لم يلتزم المستقصي بإبراز حقيقة عدم قدرته على الحصول على معلومة ما.

وفي النهاية يمكن القول إن مستقبل الصحافة الاستقصائية، على أهميتها ونجاح توظيفها في وسائل إعلام دول المنطقة، يظل مرهونًا بوجود تمويل مالي ودعم قانوني لمثل هذا النمط من التحقيقات، حتى يتسنى له ممارسة دور محوري في كشف الحقائق والتجاوزات دون الوقوع في فخ الاستسهال وعدم المهنية.